تُعَدّ الزكاة في الإسلام واحدة من أعظم أدوات العدالة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها التاريخ الإنساني. فهي ليست مجرد عبادة مالية يؤديها المسلم طاعةً لله، بل نظام اقتصادي متكامل يهدف إلى تحقيق التوازن في المجتمع، وإزالة الفوارق الطبقية، وضمان دوران الثروة بين جميع أفراده. الزكاة تمثل الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي الرابط العملي بين العبادة والاقتصاد، بين الدين والحياة، بين الفرد والمجتمع. حين قال الله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة: 103)، أشار إلى جوهر الزكاة وهو التطهير، تطهير النفس من الشح، والمال من الربا، والمجتمع من الفقر.
الزكاة ليست تبرعًا ولا منّة، بل هي حق معلوم للفقراء والمحتاجين في أموال الأغنياء، قال تعالى: «وفي أموالهم حق للسائل والمحروم» (الذاريات: 19). ومن هنا تتجلى فلسفة الإسلام في توزيع الثروة؛ فالأموال لا يجب أن تبقى حبيسة أيدي فئة معينة، بل يجب أن تتحرك داخل المجتمع في دورة اقتصادية عادلة تحقق التنمية وتحد من الفوارق.
على المستوى الاقتصادي، تؤدي الزكاة وظيفة تمويلية وتنموية بالغة الأهمية. فهي مصدر تمويل دائم للطبقات الفقيرة والمحرومة دون الحاجة إلى قروض أو ديون، مما يحافظ على كرامة المستفيدين ويجعلهم شركاء في المجتمع لا عبئًا عليه. فهي تخلق دورة اقتصادية طبيعية: يدفع الغني الزكاة، تُصرف للفقراء، يُنشط الاستهلاك، وتدور عجلة الإنتاج من جديد. وهكذا تضمن الزكاة استقرار السوق ومنع تراكم الثروات في أيدي قلة.
ومن الناحية الاجتماعية، تُعيد الزكاة بناء الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع، فتزيل الحقد والكراهية التي قد يولدها التفاوت الطبقي، وتُعزز روح التكافل والتراحم. كما أنها تسهم في تقوية الأمن الاجتماعي، إذ يقلّ معدل الجريمة مع انخفاض الفقر واليأس. إنها باختصار نظام يمنع الفقر قبل أن يعالجه.
في العالم الحديث، يمكن توظيف الزكاة كأداة تنموية فعالة عبر مؤسسات الزكاة الرسمية التي تستثمر أموال الزكاة في مشاريع إنتاجية صغيرة تعود بالنفع على الفقراء، بدل أن تُصرف فقط في المساعدات المؤقتة. وقد نجحت بعض الدول مثل ماليزيا والسودان والكويت في إنشاء صناديق زكاة وطنية تعتمد على خطط استثمارية مدروسة، مما جعل الزكاة عنصرًا فاعلًا في التنمية الاقتصادية المستدامة.
وهنا تظهر الحاجة إلى التحديث في إدارة الزكاة باستخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الأنظمة الرقمية والمنصات الإلكترونية، مما يُسهل تحصيل الزكاة ومتابعة صرفها بشفافية. ويمكن كذلك توظيف الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المستحقين وضمان وصول الزكاة إلى الفئات الأكثر حاجة.
إن الزكاة ليست عبادة فردية فقط، بل هي مشروع حضاري لو طُبّق كما أراده الإسلام لغيّرت وجه الاقتصاد العالمي، لأنها تجمع بين البُعد الروحي والمادي، وتوازن بين حق الفرد وواجب المجتمع. لذلك فإن الدور الحقيقي للزكاة ليس مجرد إعطاء مال، بل بناء مجتمع متكافل يحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
تم إعداد هذا المقال وإرساله من طرف الباحث:
ملاح حسين
في إطار النشر الأكاديمي لموقع “دليل التمويل الشرعي” المتخصص في الاقتصاد والتمويل الإسلامي،
وقد تمت مراجعته وقبوله من قبل اللجنة العلمية للموقع استنادًا إلى معايير الأصالة العلمية والتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي.
تاريخ القبول: 8 يونيو 2023
جهة المراجعة: اللجنة الأكاديمية لموقع دليل التمويل الشرعي
يُمنع النقل أو الاقتباس من هذا المقال دون الإشارة إلى المصدر حفاظًا على الحقوق الفكرية، وفق أحكام النشر الأكاديمي المعتمد.