يُعدّ الاقتصاد التضامني أحد أبرز ملامح الفكر الاقتصادي الإسلامي، وهو النظام الذي يجعل التعاون والتكافل والعدالة الاجتماعية في صميم الحياة الاقتصادية. فالإسلام لا ينظر إلى المال بوصفه غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق الخير العام وتعمير الأرض. ومن هنا جاء مفهوم “التضامن الاقتصادي” ليكون ركيزة في بناء مجتمع متكافل يربط بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية.
يختلف الاقتصاد التضامني الإسلامي عن الأنظمة الاقتصادية الحديثة التي تعتمد على الربح الفردي والمنافسة المطلقة. فبينما تسعى الرأسمالية إلى تعظيم الثروة الشخصية ولو على حساب الآخرين، يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق التوازن بين الفرد والمجتمع، بحيث لا يُترك أحد دون دعم ولا يُحرَم أحد من فرص العمل والحياة الكريمة. وقد أرسى القرآن الكريم هذا المبدأ في قوله تعالى: «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» (الحشر: 7)، أي حتى لا تنحصر الثروة في فئة محددة.
يقوم الاقتصاد التضامني الإسلامي على مجموعة من الأدوات والآليات التي تضمن هذا التوازن. أولها الزكاة التي تُعد الركيزة المالية الأولى للتضامن، فهي ليست إحسانًا اختياريًا، بل فريضة إلزامية تُنقل من الغني إلى الفقير ضمن نظام منظم يضمن استمرار تدفق الثروة. ثم يأتي الوقف الإسلامي الذي يوفّر تمويلًا مستدامًا للخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية والإسكان. كذلك تُعتبر القرض الحسن أداة تضامنية فريدة، إذ يُقدَّم المال للفقراء دون فائدة، بهدف دعمهم لا استغلالهم.
كما يُعتبر التمويل الأصغر الإسلامي جزءًا من المنظومة التضامنية، لأنه يمنح الأفراد محدودي الدخل فرصة لبدء مشاريع صغيرة تساعدهم على تحسين حياتهم دون الوقوع في فخ الديون الربوية. هذا المفهوم يجعل التكافل الاجتماعي عنصرًا منتجًا وليس عبئًا، ويحوّل الفقراء إلى شركاء في التنمية لا متلقين للمساعدات.
الاقتصاد التضامني في الإسلام لا يقتصر على الجانب المالي فقط، بل يمتد إلى أخلاقيات السوق والمعاملات اليومية. فالتاجر المسلم لا يُستغل حاجة الآخرين، ولا يغش، ولا يحتكر، لأن التجارة في الإسلام تقوم على الصدق والأمانة. بل إن النبي ﷺ جعل الصدق في البيع والشراء سببًا للبركة، فقال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما». وهكذا يتحول السوق من ميدان للأنانية إلى فضاء للتعاون والتكامل.
ولأن التضامن قيمة شاملة، لم يقصر الإسلام دوره على داخل المجتمع الإسلامي فقط، بل امتد إلى الإنسانية جمعاء. فقد دعا الإسلام إلى العدل في التعامل مع غير المسلمين، وإلى نصرة المظلوم ومساعدة المحتاج بغض النظر عن دينه أو جنسه. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الاقتصاد التضامني الإسلامي يمثل نموذجًا عالميًا للاقتصاد الأخلاقي القادر على معالجة أزمات العالم المعاصر مثل الفقر، والجشع، والتفاوت الطبقي.
في العصر الحديث، يمكن توظيف مبادئ الاقتصاد التضامني الإسلامي لبناء مؤسسات مالية واجتماعية جديدة، مثل صناديق الزكاة الوقفية، أو الجمعيات التعاونية الإسلامية، أو بنوك التنمية الاجتماعية. كما يمكن دمج هذه المبادئ في سياسات الدولة من خلال الضرائب العادلة، وتشجيع الاقتصاد الاجتماعي، وتحفيز الشركات على تبني المسؤولية المجتمعية وفقًا لمقاصد الشريعة.
ويتميّز الاقتصاد التضامني الإسلامي بأنه لا يعتمد على الإكراه، بل على الإيمان والمسؤولية، إذ ينبع من قناعة داخلية بأن المال أمانة وأن التكافل واجب إنساني قبل أن يكون التزامًا قانونيًا. إنه نظام يوازن بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بين السوق والضمير، بين الربح والرحمة.
إن إعادة إحياء مفهوم الاقتصاد التضامني في المجتمعات الإسلامية اليوم ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة عملية لبناء اقتصاد مستقر وعادل. فحين يُفعَّل التضامن كقيمة اقتصادية، يتراجع الفقر، ويزدهر الإنتاج، وتُصان الكرامة الإنسانية. وبهذا يتحقق قول النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». إن الاقتصاد التضامني في الإسلام ليس نظرية مثالية، بل واقع قابل للتطبيق حين تتوافر الإرادة والنية الصادقة لإعادة المال إلى وظيفته الأصلية: خدمة الإنسان لا العكس.
تم إعداد هذا المقال وإرساله من طرف الباحث:
الدكتور عبد القادر عابد
في إطار النشر الأكاديمي لموقع “دليل التمويل الشرعي” المتخصص في الاقتصاد والتمويل الإسلامي،
وقد تمت مراجعته وقبوله من قبل اللجنة العلمية للموقع استنادًا إلى معايير الأصالة العلمية والتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي.
تاريخ القبول: 14 سبتمبر 2020
جهة المراجعة: اللجنة الأكاديمية لموقع دليل التمويل الشرعي
يُمنع النقل أو الاقتباس من هذا المقال دون الإشارة إلى المصدر حفاظًا على الحقوق الفكرية، وفق أحكام النشر الأكاديمي المعتمد.